الفنانة الموريتانية الكبيرة "ديمي" ترحل.. ومحبوها يبكونها شعرا ونثرا
نواكشوط ـ محمد ناجي ولد أحمدو
وسط دموع محبيها الكثر، ودعواتهم لها بالرحمة والغفران، رحلت الفنانة الكبيرة ديمي بنت آبه، وخبا صوت سيسكن لمدد طويلة، لا يعلمها إلا الله، شغاف الموريتانيين جميعا.
ديمي.. إحدى أساطين الفن الموريتاني، والقامات الخالدة في تاريخ الفن الموريتاني، ولدت في تكانت، بوسط موريتانيا قبيل منتصف ستينات القرن الماضي، لأسرة فنية من أبرز أسر موريتانيا الفنية، هي أسرة أهل آبه، التي ينتهي نسبها إلى أبي الفن الموريتاني سدوم ولد انجرتو.
.
والدها هو الفنان الكبير سيداتي ولد آبه، الذي لحن النشيد الوطني الموريتاني، وأحد أبرز الرموز المرجعية في تاريخها، ووالدتها هي الفنانة الكبيرة منينه بنت أيده (توفيت منتصف التسعينات).
بدأت علاقتها مع آذان متتبعي الطرب الموريتاني في منتصف السبعينات، وغنت لرائد الأدب الموريتاني أحمدو ولد عبد القادر "ريشة الفن"، ومثلت من خلالها موريتانيا في مهرجان الموسيقى العربية في تونس.
حملت ديمي "ريشة الفن" على مدى العقود الثلاثة الموالية، وارتبط صوتها الدافئ الحنون بذائقة أبناء وطنها، وعزفت على أوتار قلوبهم.
كانت مدرسة ديمي الفنية الأولى بيتها، حيث تلقت مبادئ الفن، والدروس الأولى في الآردين على يدي والدتها منينه ووالدها سيداتي.
وابتداء من بداية الثمانينات شكلت مع الفنان الكبير سدوم ولد أيده ثنائيا فنيا.. تَمَلـك ذواقة الطرب لفترة طويلة، وكانت كاسيتات "الغرام" "الكريه" "الدعاية" "عيد المولود" "البهتان" "المفاجأة 1"، المفاجأة 2"، "الرحاب".. ترانيم على كل الشفاه.
تزوجت الفنانة ديمي من رائد مدرسة الطرب الموريتاني الحديث الفنان الراحل سيمالي ولد همد فال، الذي أضاف إليها خبرة على خبرتها، قبل أن تتزوج بابن خالتها الراحل الفنان الكبير الخليفة ولد أيده، وغنت مع الخليفة في كاسيتات، لا يمكن أن ينساها جمهور الفن في موريتانيا: "ديمي لندن" مثلا..
حنجرة ديمي الذهبية كان لوطنها وقضاياه منها الشيء الكبير، من منا ينسى "يا موريتاني اعليك امبارك لستقلال"، وغيرها كثير من مساهمات فنانة كبيرة؛ لم تقبل أن تتخلف لحظة عن مناسبات بلادها الكبرى.
عن طريق صوت ديمي، تعرف الكثيرون؛ حتى من البسطاء، على أشعار عدد كبير من الشعراء، يقف في مقدمتهم الشاعر الكبير نزار قباني.
ومع الزمن صارت ديمي إحدى أبرز القامات الفنية في تاريخ موريتانيا، حتى استحقت، وبجدارة لقب "كوكب موريتانيا".
نزل خبر رحيل الفنانة الكبيرة ديمي بنت آبه كصاعقة على رؤوس الموريتانيين، الذين كانوا يتابعون، وباهتمام، الحالة الصحية لفنانتهم.
صفحات الفيس بوك الموريتانية امتلأت بمئات التعازي مباشرة بعد إعلان الحبر المفجع، والحكومة أرسلت رسميا وفدا رفيع المستوى برئاسة وزيرة الثقافة والشباب والرياضة سيسه بنت الشيخ ولد بيده، لمرافقة الجثمان الى نواكشوط، حيث ستقام الصلاة على الراحلة، ويوارى جسدها الثرى.
ديمي قصة من الفن.. وملحمة شدو وامتلاك لدواخل عشاق الطرب الأصيل.. امتطت صهوة الأبدية اليوم، في مستشفى ابن سينا في العاصمة المغربية الرباط، ولكل شمس غروب.
ديمي، التي كتب الشعراء الموريتانيون القصائد في مناغاتها، رحلت، من بعدما ما كانت ملء السمع والبصر، اسمع الشاعر الكبير محمدن ولد الشدو يناغيها في هذه الابيات الرائعة:
دومي على الشدو في العلياء يا ديمي
فالفن ملككم من عهد سدوم
سموت في الشدو آفاقا جمحت بها
عما تصور إحساسي ومفهومي
هذي التسابيح يا ديمي تذكرني
زرياب بين بني تيم ومخزوم
يعيد أعذب شعر صاغه عمر
في غصن بان هضيم الكشح كالريم
وشهرزاد تناغي شهريار روى
عهد بذكر بني العباس مختوم
أو هي كالرسم من سدوم في ملإ
من شم "إيعيش" في الهيجاء مشؤوم
و"غسرم" الب بن مان في الجحاجح من
أبناء دامان.. أو هي أم كلثوم
تثير أروع مقداما تباركه
يحمي القناة.. ويجلو صولة الروم
ونغمة الناي والقطعان راتعة
بين المروج وبين الطلح والدوم
من معشر من بني حسان دارهمُ
"لورين" صيفا.. وإن شاموا ففي "شوم"
غلب غطارفة كالصحراء دينهمُ
حفظ الذمار وإنصافٌ لمظلوم
بادوا.. سوى ذكريات ما.. تخامرنى
إذا شدوت على ألحان سدوم
وأصبحت دمن الأحباب خاوية
فيها تعشش أسراب من البوم
واسمع الشاعر الشاب الشيخ ولد بلعمش، يبكيها في قصيدة، ولدت في يومنا
لم تأفل الشمس حتى لو بكى الشفق
مازالت الأرض بالأنوار تأتلقُ
مازال في القلب من إطلالها حُلُمٌ
وفي الرياحين من تِذكارها عبقُ
والذارفون دموع الطيب صادقة
من بوحها في دروب الحيرة احترقوا
حنت لأيامها الأولى فما غربت
إلا لتغرب في أكبادنا الحُرَق
كانت لنا نعمة تمحو مواجعنا
فما أقل الألى في حمدِها صدقوا
إذا فؤادُ أديبٍ هدَّهُ القلق
فللأسى شعراء الأرض قد خُلقوا
نحن الذين نذوق الفن مترعة
كؤوسه ويناجي صمتنا الألق
إنا غرقنا ولا إثم يدنسنا
طوبى لمن في بحار الروح قدْ غَرِقوا
من أمرك الله هذي الروح تسكننا
منها تدلَّت رؤى الفنان إن رشقوا
ياديم يا حرقة في القلب باقية
ألا رجوعَ فروح الحبر تختنق
تمضين عنا إلى الأخرى مسافرة
وكلنا سابق يوما ومُلتحِقُ
من ذا يخفف عن سيداتِ لوعته
وكانَ ممن بوعد الله قد وثِقوا
من ذا سيرجع للدنيا نضارتها
وتصطفيه مقادير فينطلق
الله يا من لك العتبي إذا انزلقت
بعض الحروف فنار الحزن منزلق.
واسمع زميله سيدي محمد ولد ابه، في ابيات آخرى بنت يومها:
عَفَتْ هذي الديارُ وراء ديمي
منَ الألحان والصوت الرخيم
ومن كرم ومن نبل وصدق
ومن خُلق ومن خير عميم
عفتْ هذي الديار فخل عني
فلا طللا تراه سوى الهشيم
ولا لحنا ولا صوتا شجيا
ستسمع في الأصائل يا نديمي
يتيما صرتَ من أم المعالي
فمنْ لك من يتيم بعدَ ديمي..!!
ولم يغب النثر عن ملحمة تأبين فقيدة الوطن ديمي، الكاتب عبد الله ولد حرمة الله أبن المرحومة بنثر كالشعر،" كل شيء بموريتانيا به من ديم بنت آبه حميمية! لا يكاد يستكمل اليوم غيابه، حتى تنطفئ شمعة مشرقة من رسل الموريتانيين نحو ذواتهم، وللعالم!
أعلن للتو رحيل المغفور لها ديمي بنت آبه في مدينة الرباط بالمملكة المغربية، في عمر الزهور تغادر بستانا جميلا غرست به؛ وأينع ورودا جميلة وفياحة من حياة الموريتاني، العاشق، المتهج، العابد، الزاهد، الحساس.. المتعلق بتلك الفكرة الجميلة التي أعلنها يوما "أمة موريتانية" بوجدان رهيف وجائد!"
أفلت شمس ديمي، ورحلت، مخلفة فراغا كبيرا، بحجم العطاء الكبير، الذي قدمته لوطنها وشعبها، ومن المستبعد أن يملأ ذلك الفراغ في الأمد المنظور.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
sahara media