في العقد التاسع من عمره؛ هرم الجسد وشاخ..، يتقدم في السن، وروحه مشتعلة، وفكره متوهج، وعيناه تبرقان، وصوته يزأر، إنه الإمام الثائر الشيخ يوسف القرضاوي...
كتب الكثير عن القرضاوي، وصف بالخطيب والمعلم والفقيه والمجدد والمصلح، مع أحداث ثورتي تونس و مصر، أكد صفة الإمام الثائر على الظلم و الاستبداد، الإمام الثائر الذي عانق نبض الثوار الشباب، و هتف معهم إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ..
من فوق من منبر خطبة الجمعة كان يرسل القرضاوي خطابات نارية يوجهها للرئيسين المخلوعين مبارك و ابن علي، فتنزل على الثوار بردا و سلما في ميدان التحرير و في محافظات تونس، أمام هذه الحالة الخطابية للشيخ الفقيه، يستوقف المتتبع لسيرة هذا العالم العلم، التساؤل الآتي؛ لماذا ثار الشيخ يوسف القرضاوي وهو داعية الوسطية و الاعتدال في العالم الإسلامي؟
القرآن حاكم على السنة وليس العكس
اجتهد دعاة الفكر النصوصي خلال الثورة الشعبية السلمية المصرية، في حشد الكثير من الأحاديث المصنفة في باب الفتن، ثم يأتي القرآن عندهم في المرتبة الثانية، كل ذلك من أجل إقناع جمهور الثورة على المكوث في بيوتهم تجنبا للفتنة، و الاهتمام بخاصة أنفسهم كما يشير إلى ذلك حديث أبي حذيفة رضي الله عنه، و هذه المنهجية في التفكير مؤداها أن تصبح السنة حاكمة على القرآن، ولا يستدل بالقرآن عندهم، إلا لتبيان أن ما يعرفه الإنسان المسلم من أحداث، هو نتيجة ذنوبه الكثيرة، و لا يستدلون بالقرآن في عرض مصير الظلم و الظالمين و الطغاة و المستبدين.
بالرجوع إلى خطب الشيخ القرضاوي و بياناته، القرآن الكريم يحتل مرتبة الصدارة عنده، ثم تأتي السنة للبيان و التوضيح.
نماذج من الآيات القرآنية: يقول عز وجل:( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الأنعام: 46، هذه الآية عرضها الشيخ القرضاوي في الكثير من خطبه، و نبه من خلالها أن سقوط الظالم هو من النعم التي ينبغي على المسلم أن يحمد الله عليها..، و لبيانه شناعة الظلم، فإن الله يحذر من يركن إلى الظالمين من أن تمسه النار ، يعرض هذه الآية:( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) هود:113، و ينبه الشيخ إلى أن العذاب إن نزل لا ينزل على الظالمين خاصة بل على من سكت عن المنكر أيضا فيعرض قوله سبحانه:( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) الأنفال:25.، ويشير إلى مصير الظالمين بقول الله تعالى:( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) القصص:8 وقوله تعالى:(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) القصص:40.
يؤكد القرضاوي بعرضه هذا، على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع و التوجيه، والذي ينهى عن الظلم و الطغيان، بغرض إكساب خطابه حجية شرعية مفحمة للمثبطين، الذين يستدلون بأحاديث خبرية مصنفة في باب الفتن، و منها حديث سلام عن أبي حذيفة، الذي يتضمن زيادة "..تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضُرب ظهرك ، وأُخذ مالك فاسمع وأطع.." فاعترض القرضاوي على هذه الزيادة الضعيفة، بقول للإمام الدارقطني جاء فيه:" وهذا عندي مرسل لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة".
نماذج من الأحاديث النبوية: يستدل القرضاوي بعد عرضه لنماذج من آيات القرآن الكريم التي تنهى عن الظلم و تبين مصير الظالمين، بأحاديث كثيرة منها:
في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال ثم قرأ:"وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" 102هود)
وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)
وفي المستدرك للحاكم، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم )
وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:( مَن رأى منكم منكرا فليغيِّره بيده، فمَن لم يستطع فبلسانه، فمَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود مرفوعا:(ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسنَّته، ويتقيَّدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل).
وروى أبو بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الناس إذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده).
إن المتأمل في هذه الأحاديث الواضحة البينة، تشير بجلاء إلى فضل قول الحق أمام الإمام الظالم، و أن الله يعاقب الظالم عقابا شديدا، و الإسلام يدعو إلى تغيير المنكر حسب الاستطاعة، و أن السكوت عن المنكر ذنب كبير، فهذه الأحاديث لا يستدل بها أصحاب الفكر النصوصي بالرغم من أنهم يحفظونها عن ظهر قلب، و بعضها أحاديث صحيحة مليحة، و كل ما يرجون له هو الأحاديث التي توجه و تدعو المسلم إلى الاقتلاع عن الذنوب، مع أن الحدث هو حدث تسلط حاكم مستبد.
قواعد ومنهجيات الفهم و البيان
إن هذه الآيات و الأحاديث لا يمكن فهمها إلا في ضوء قواعد و منهجيات مؤطرة، تسلم الفقيه المجتهد إلى الرأي الصواب، و من خلال تتبع خطب و تصريحات الشيخ القرضاوي حول الثورة المصرية، تم الوصول إلى ما يلي:
إحقاق العدل أولا: اشتهرت مدرسة الوسطية و الاعتدال مع الشيخ يوسف القرضاوي، بإرساء فقه الأولويات والموازنات، وفقه المقاصد، وفي هذا السياق و ردا على الدعاة الذين دعوا المصريين إلى المكوث في بيوتهم والابتعاد عن الفتنة، أرجع القرضاوي موقف هؤلاء إلى" عدم استيعابهم لفقه الأولويات، فلا يردوا الظنيات إلى الكليات، و لا المتشابهات إلى المحكمات، و لا الجزئيات إلى الكليات فحرفوا الكلم عن مواضعه، و من فقه الموازنات الشرعية؛ لا يمكن أن تجامل فردًا على حساب شعب، لا سيما وهو أقرب إلى الأموات منه إلى الأحياء".
فهذه الخلفية المنهجية، هي أساس العقل الإسلامي في تعامله مع النص و الواقع، و هذا ما يسير عليه الشيخ القرضاوي، فهو يصدر عن أساس منهجي في إصدار المواقف و الأحكام، و لا يتعامل مع النص القرآني أو الحديث بطريقة الحكاية و الإخبار دون فهم أو استيعاب، كما سار على ذلك بعض الدعاة في سياق تفاعلهم مع الحدث المصري، بل يستدل بالدليل في سياقه مبينا معناه، ويبحث عن القطعيات و يرجع إلى الكليات، و يستدل بالمحكمات، عكس ما سار عليه دعاة التثبيط و الانعزال، حيث حشدوا أحاديث الفتن، التي هي من الخبر لا الإنشاء الذي يستند عليه في الحكم التشريعي، لكن القرضاوي، يسوق الكثير من الآيات القرآنية الصريحة التي تبين جرم الظلم و عاقبة الظالمين و ثواب من وقف أمام الظلم، إضافة إلى الأحاديث التي تدعوا إلى مواجهة الظلم و الاستبداد، و إحقاق العدل الذي هو من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية " إن الله يأمر بالعدل و الإحسان"، و الذي بغيابه يعسر عيش الإنسان في أمن و أمان، و القرضاوي هنا، يرجع إلى الكليات القطعيات التي تواترت نصوص الشريعة الحث على حفظها، فيرد الجزئيات و الظنيات إليها، ليخلص إلى حكم جلي و واضح.
ليس خروجا مسلحا بل ثورة سلمية: يمتاز الشيخ يوسف القرضاوي بالتدقيق المفاهيمي و اللغوي، و يتضح ذلك بجلاء كبير في كتابه معالم و ضوابط فقه السنة، و يسير على ذات المنهج في تعاطيه مع حدث الثورة المصرية الشعبية السلمية، ففي رده على من وصف ثوار ميدان التحرير ب"الخوارج"، عمل الشيخ على تدقيق مفهوم الخوارج كما اشتهروا في التاريخ الإسلامي، فبين أن الخوارج "هم من خرجوا على الحاكم بثورة مسلحة و استحلوا الدماء و كفروا من عادهم، وشباب الثورة المصرية، لم يخرجوا على مبارك لا بمدافع و لا قنابل، بل تظاهروا في ثورة بشكل سلمي، ولم يكفروا أحدا، و لم يستحلوا دم أحد"
إن هذا التدقيق المفاهيمي من أهم الخطوات التي تتجلى به الحقائق و المعاني، والفقيه الذي يعتمد في استدلالته على حفظ فتوى المدونات الفقهية، قد يجد صعوبة في تكييف بعض النوازل المستجدة، فما إن يستجد في أحوال الناس جديد، إلا ويستدعي ذاكرته لكي يجد جوابا، وفي حالة الثورات الشعبية السلمية، التي لم يعرفها التاريخ العربي الإسلامي، و لم يعرف أن الفقهاء القدامى أجابوا على مثل هذه النوازل، فإن هذا الفقيه إن لم يتريث في حكمه فإن سيقيس هذه الثورات السلمية الشعبية على الخروج المسلح على الإمام، ويفتي بالحرمة، و الحق؛ أنه شتان بين الخروج المسلح و ما يسمى بالثورة الشعبية السلمية، و لبيان ذلك، لابد أن يقوم الفقيه بالتدقيق المفاهيمي لهذه المصطلحات حسب سياقها الزماني و التاريخي.
ومن هنا، فإن" الفكر الاستظهارتي" المغرم باستظاهر النصوص و المصطلحات، يخلط بين السياقات التاريخية لكل ثورة، وبهذا المنحى يعطل هذا الفكر أفقه التحليلي، و لا يكلف نفسه عناء التمييز المنهجي، و يهفو إلى البساطة والاستراحة الفكرية، لإنهاء التفكير و التأمل.
الظلم ثابت و وسائل مواجته متجددة: يعجز الفكر النصوصي عن التفريق بين " المقاصد الثابتة و الوسائل المتجددة" ، فيضع الوسائل في خانة الثبات، و يعطل التجديد المرتبط بحركية الواقع و التاريخ، فإن تم الاتفاق على مواجهة الظلم و الاستبداد كمقصد ثابت، فهذا الفكر لا يستطيع الانتقال و مواكبة ما استحدثته الإنسانية من طرائق جديدة لمواجهة الحاكم المستبد، و منها العصيان المدني الذي يبدأ في شكل انتفاضة سلمية لا تحمل سلاحا و لامدفعا، تريد إسقاط الشرعية عن حاكمه المستبد، و ينتج عن هذا، إطلاق أحكام جاهزة و قديمة، كل من خرج عن الحاكم المستبد و لو كان ظالما فإنه سيثير الفتنة!، دون أن يبين طريقة الخروج هل هي سلمية أم عنفية؟
ولذلك فالشيخ القرضاوي يؤكد بقوله:" ولقد ابتكر عصرنا وسائل سلمية لمقاومة الحكَّام المستبدِّين والمتسلِّطين على شعوبهم، ومنها هذه الوسيلة الفعالة: وسيلة التظاهر السلمي، تقوم به الجماهير بالنزول إلى الشارع، والهتاف بمطالبها المشروعة، وهي وسيلة ضغط معروفة في العالم كلِّه، وكثيرا ما تؤدِّي إلى سقوط الحكم الدكتاتوري رغم أنفه، دون طلقة نار، لا سيَّما إذا تكاثر المتظاهرون وتكاتفوا".
حفظ الكيان الإنساني قبل انهياره: لا يمكن الترجيح بين المفاسد و المصالح إلا بقراءة عميقة للواقع، و الفكر النصوصي يقفز على الواقع المصري الذي دفع المواطن للثورة على الحاكم المستبد ثورة سلمية، و هذا الفكر يتجه مباشرة للنص لتنزيله دون أن يدرك موضع التنزيل، إلا الشيخ القرضاوي يقدم قراءة واعية و واضحة لواقع مصر السياسي و الذي حكمه المستبد لمدة ثلاثين سنة و الذي يقول فيه حسب بيان للشيخ القرضاوي:" لقد ظلم الحاكم في مصر، وطغى على الشعب، وضيَّع حقوقه، وأهدر حرماته، حتى تخرج الملايين ولم يجدوا لهم عملا يتعيشون منه، ولا يجد الشاب شقَّة يسكن ويتزوَّج فيها، في حين نرى فئات من الناس نهبوا أرض مصر، وسرقوا ثرواتها، لمجرَّد انتمائهم إلى الحزب الحاكم، كما زور الحاكم الفرعوني في مصر الانتخابات على كل مستوى...ومكن جهاز أمن الدولة في مصر من التسلُّط على الشعب.. "
فهذا التشخيص للواقع المصري، يبصر الفقيه العالم حين يتعامل مع نصوص القرآن و السنة، و التي لا تقره بحال من الأحوال ، فيبحث الفقيه عن حل لهذا الواقع الأليم الذي يعيش فيه المواطن، و أن يكون حلا دافعا للمفاسد و جالبا للمصالح، هذا من جهته، أما من جهة الشعب الذي يعيش هذا الواقع؛ فبادر إلى حل يراه صحيحا و سليما و هو الانتفاضة السلمية التي تطورت إلى ثورة، وهذه المبادرة تشكل خبرة ميدانية أخذت شرعيتها من الإجماع الشعبي، فما كان على الشيخ القرضاوي إلا أن يقرها خصوصا و هي تدفع الكثير من الظلم و الفاسد، و الفكر المقاصدي هذا مؤداه، يلتحم مع تطورات الواقع دون أن يخرج عن الكليات الكبرى للدين، و التي جاء لحفظها، الدين و النفس و العقل و النسل و المال، فينظر إلى هذه الكليات الضرورية أنها مهددة بالزوال، فما عليه إلا أن ينادي في الأمة أن هلموا لحمايتها.
في الختام، إن وسطية الشيخ يوسف القرضاوي هي الدافع الرئيس لثوريته، فمنهج الوسطية الاعتدال، الذي يقر بجمع الأدلة في الموضوع الواحد و النظر في القرآن أولا و الحديث ثانيا، و الذي يولي أيضا اهتماما بالغا للأولويات، أكد أن إحقاق العدل أولا؛ و بطريقة سلمية و فق وسائل العصر المناسبة من أجل حفظ الكيان الإنساني من الانهيار، كل ذلك تحقق في هذه الثورة المصرية، فلم يتوان عن التحريض و الدعوة، بل هب ثائر