بحث هذه المدونة الإلكترونية

لرياضة: شالكه الالماني وبرشلونة الاسباني يتأهلان الى دوري الثمانية لدوري ابطال اوروبا

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 18 مارس 2011

مقال يحي ولدحامدن الانسان


أصبت بالذهول، مثل غيري من الموريتانيين، وأنا أسمع نبأ وفاة المغفور له بإذن الله تعالى الدكتور يحي ولد حامدن، الأكاديمي الموريتاني الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا فجر يوم الجمعة 2011/11/03 في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس.

ورغم أن خسارة رجل من هذا العيار هي، دون أدنى شك، خسارة أكاديمية كبيرة ليس بالنسبة لموريتانيا فحسب بل للعالم كله، فإنني ارتأيت في هذا المقال التأبيني المقتضب أن أتناول جانبا من حياة الرجل الإنسان وليس الأكاديمي وذلك لسببين

:

الأول: أن هذا الجانب من حياة الرجل لم يتح للكثيرين التعرف عليه.

الثاني: أنني لم أعرف المرحوم يحيى أكاديميا ولا باحثا ولكن إنسانا بمعنى الكلمة.

بدأت صداقتي، إن جاز أن أطلق هذا اللفظ على العلاقة التي ربطتني بالمرحوم يحيى في 1999م عندما كنت أتردد على مقر الاتحادية الموريتانية للشطرنج. صداقة جمعت بين شاب يبلغ من العمر 17 عاما يتلمس طريقه ويحاول جاهدا أن يفتح عينيه على الدنيا وابن عمه الذي تجاوز الخمسين من العمر، وبلغ من الشهرة والمجد ما بلغ، بين طالب الثانوية وعالم الرياضيات، بين هاوي الشطرنج واللاعب المحترف. حواجز كثيرة كانت تستطيع أن تقف في وجه تلك الصداقة. لكن كل تلك الجواجز لم تكن تعني شيئا في قاموس يحيى ولد حامدن الإنسان.

أثناء ترددي على مقر الاتحادية الموريتانية للشطرنج، أثار انتباهي ذلك الرجل الأنيق المتواضع الذي يوزع ابتسامته على الجميع ويناديه أصحابه بـ (الدكتور).

وبعد شهر، اكتشفت أن الدكتور هو نفسه يحي ولد حامدن الذي سمعت عن عبقريته وبحوثه وتمسكه بأصالته رغم أنه يعيش في فرنسا منذ عقود

. رأيت فيه الحلم الذي يطمح إليه الشاب الموريتاني، تعلمت منه أسمى آيات التواضع والبساطة في التعامل مع الآخر، تعلمت منه كيف يكون المرء إنسانا قبل أن يكون أكاديميا أو باحثا. تعلمت منه أن قيمة الإنسان هي في إنسانيته وتعماله مع الآخرين مصداقا لقول الرسول (ص): "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق"، وليست في شهاداته أو شهرته أو ما يُحصِّله من الأعراض الدنيوية التي لن ترافقه إلى القبر ورحلة الدار الآخرة.

لم أشعر يوما، وأنا أتعامل معه، أنني أمام ابن عمي ويجب أن تحكم علاقتنا أو-إن شئت قل صداقتنا- بمجموعة من البروتوكولات والتحفظات التي يمليها علينا المجتمع الذي ننتمي إليه.

طيلة سنوات حظيت برفقته لمدة ساعات يوميا، استمتعت بشخصية من الصعب أن تتكرر في هذا الزمان. مزيج بين محظري أصيل ومثقف متحضر منفتح على الآخر: يحاضر في الفقه ويعرف بالتفاصيل الموسيقى الأوروبية التقليدية كسمفونيات بتهوفن ومعزوفات موزارت والمدارس الفنية في الرسم ويستشهد بالشعر وأيام العرب. يساعد الآخر ويحتضنه في كنفه ويرشده بتواضع من دون أن يشعر الطرف الآخر بذلك ودون أن ينتظر هو مقابلا.

صداقة افتخرت بها ومازلت وأعتبر نفسي من المحظوظين الذين وضعتهم أقدارهم في طريق يحي ولد حامدن الإنسان وليس الأكاديمي ولا الباحث.

Echec et mate (الشيخ مات) عبارة رددناها دائما في جو من المرح لكننا اليوم نعيشها في جو من الحسرة على فراق الشيخ والصديق الذي سكن قلوب كل من عرفه عن قرب ولم يخرج منها بعد وفاته.

كان زاهدا في الدنيا ولم تغره ملذاتها الزائلة. يترك لهو الحياة ومتاعها في عاصمة الأنوار وصخبها ليعود إلى خيمة هادئة في أحضان البادية الموريتانية ويوزع ما شاء الله له أن يجمع من متاع الدنيا الفانية على الأرامل والأيتام فيخفي ما ينفق بيمينه حتى لا تعلمه شماله.

أخبرني بعض من أثق بهم أنه عندما كلفه نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد الطايع بتنظيم أول منتدى للباحثين الموريتانيين في الخارج، سلمت له الأموال بتوجيهات من الرئيس في أكياس من الخزينة العامة للدولة. ولم يطلب منه حتى مجرد التوقيع على ورقة استلامها وخولت له مطلق الصلاحيات في التصرف بها. ورغم ذلك اشترط وضعها في حساب مصرفي وتعيين شخص من قبل الحكومة ليوقع معه على كل المصروفات.

يومها، أصيب الخريجون من مدرسة "التفكريش" بالذهول. وتساءلوا: كيف يستطيع هذا الرجل أن يأتيه رزق فيرفضه؟ لكن يحيى كان يعرف أن لحظة الحساب ستحين لا محالة. وعندما انتهى الملتقى، أصر يحيى على إعادة الأموال التي بقيت بحوزته إلى خزينة الدولة.

في آخر اتصال هاتفي له مع صديقه إبراهيم ولد همام ليطمئن على حاله بعد إصابته بوعكة صحية بسيطة قال له يحيى: apparemment c’est grave. لقد اضطررت لاستعمالun antibiotique . ولربما كان، رحمه الله، يعلم أنه بكلماته تلك ينعى نفسه لأصدقائه الذين عرفوه عن قرب. وتلك، لعمري، ميزة أخرى تضاف ليمزات يحيى الإنسان التي لا يستطيع مقال مقتضب أن يحيط بها. وما ذلك بغريب على سليل العلامة والمؤرخ والفقيه المختار ولد حامدن ومحنض باب ولد اعبيد رحمهم الله جميعا.

شيخنا ولد محمد الأمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق