بحث هذه المدونة الإلكترونية

لرياضة: شالكه الالماني وبرشلونة الاسباني يتأهلان الى دوري الثمانية لدوري ابطال اوروبا

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 15 مارس 2011

نهاية الجيش الموريتاني/ أبو العباس ولد برهام



 

 

في صيف 2008، انتهى الجيش الموريتاني كرمز للوحدة الوطنية وترجل، تقوده فئة من خارج الأركان العليا، إلى ساحة المعركة السياسية وأخذ مواقعه متخندقا مع طرف ضد آخر. تخلى عن تعاليه.  شهد ذالك الصيف أول مرة في تاريخ البلاد لا يسفر فيها الانقلاب عن تجاوز الصراع السياسي القائم إلى آخر جديد بل يتم فيه تكريس الأزمة. تحول الجيش الجمهوري إلى حزب سياسي و حدد موقفه السياسي من الخريطة القائمة.
في الأيام اللاحقة ناور الجيش سياسيا في ترجيح كفة سياسية ضد أخرى بالقوة والمال والتحالفات الميكيافلية فقط ليؤكد طرفيته وسياسيته.  
اليوم تماهي قطاعات واسعة من المجتمع نفسها مع مشروع معاد للجيش. اليوم يثير الجيش الموريتاني قلق شرائح عريضة بدل أن يحسها بالدفء والحماية. اليوم يعرف الجميع أنه لو لم يوجد هذا الجيش لما كانت هنالك أزمة سياسية أبدا. اليوم لم يعد عاقل يشكك في أن هذا الجيش عائق أمام الدمقرطة والتنمية؛ واليوم، على عكس كل العالم، يتمنى الكثير هنا لو لم يكن هنالك جيش أبدا.
-2-
عندما ينتشر الجيش في السياسة تنتهي المحددات المدنية للدولة. في كل المخيال الإنساني هنالك خوف على الحياة المدنية من "الجيش": في المخيال الديني هم ياجوج و ماجوج: ثكنة توجد في الثغر، تحفر بجد لانهاء الحياة المدنية. في الميتولوجيا هم العنقاوات والتنانين التي تنفث النار في أعقاب البشر المهرولين في كل الاتجاهات. ملحمة العمالقة الإغريقية تعلمنا أن المدينة ستكون ضحية الجيش. المدينة هي مكان أناس بسطاء ينظمون أمرهم (بشكل غير جيد طبعا، ولكنه ينظمونه على كل حال). ولكن ذات ليلة سيغزو المدينة جيش من المخلوقات الضخمة، كريهة المنظر والرائحة. حيوانات شريرة بشكل لا يصدق. سيندفعون محطمين المساكن والبيوت ويحرقون السنديان والبلوط، يكورون جلاميد الصخور ويدحرجونها بقوة في اتجاه البيوت الآمنة. عصر من عدم اليقين و الخوف سيسود بمقدم الجيش: نهاية النظام و التعقل والتمدن.
-3-
يحدث غزو الجيش للمدينة بانمساخ قيمي يحول العسكري من بطل إلى بهلوان. لننظر في قصتين رمزيتين من التاريخ القريب للضباط.
1-ذات مرة هنا كان هنالك ضابط يشحذ مديته لإنهاء الطاغوت العسكري-المتمدن الذي يجثم على صدر شعبه. أتذكرون؟ ظهر فجأة عندما اشتد الظلام واشرأبت الأعناق. ظهر من بين الغمام،عريض المنكبين، مفتول العضلات، وكان أملا في التغيير، الوحيد الذي جعل فرائص الشاه ترتعد. ذالك الضابط ماذا حل به؟ اكتفى فجأة بالفتات، و آوى بصمت إلى قعر مظلم وسكن فيه. اليوم يعرف كل أحد في هذه البقعة أن ذالك الضابط لم يعد يمثل أي حلم للثورة. انتهى في القعر.
في الأسبوع الماضي جلس الضابط الأسطوري في وسط الإعلام الرسمي متحدثا باسم الأغلبية التي أراد يوما الثورة عليها ومهاجما المعارضة التي أتى لإحقاق برنامجها بالقوة بحجة الفوضى. اللغة حيوان زئبقي بشكل لا يمكننا تصوره: الانقلاب (لغويا يعني الفوضى) ليس فوضى: الفوضى هي الاحتجاج عليه.
 إن هذه القصة، قصة تحول مفهوم الفوضى، التي هيالوجه الآخر لتحول مهاجم الأغلبية إلى مدافع عنها وتحول الثوري إلى المداهن- التي هي نفسها أيضا قصة تحول الضامر الجلف إلى المكتنز الراقي- هي رمز لقصة كيف تحول الجيش من "حاميها لسارقها". هذه هي قصة كيف تحول المنكب إلى بطن.
2-مثل القصة أيضا هي قصة الضابط الآخر الذي دفع بالديمقراطية قدما عندما كان عقيدا ثم دفع بها أرضا عندما صار جنرالا: الجنرال الذي فتح مصيرا واعدا لبلده في 2005 ثم ألقى بكل البلد في قمامة الازدراء والسخرية بعد ثلاثة أعوام في قضية كرامة شخصية لا علاقة لها بالمسار الافتراضي لشعب يحترم نفسه.
 إن قصص تحول الأمل إلى يأس وانقلاب الثورة إلى غباوة هي اختصار سريع لقصة الجيش والسلطة في موريتانيا.
-4-
دعونا نختطف هذه العبارة من الباكستانيين بدافع الأحقية: "في جميع بلدان العام تمتلك الدولة جيشا أما عندنا فالجيش يمتلك دولة".  وهنا عكس العالم حدث هذا الامتلاك نتيجة فشل دولة الحداثة وليس تحديثا لها. وفي تركيا و أميركا الجنوبية مثلا اضطلع الجيش بمهمة تحديث الدولة في إطار ديكتاتوري تغريبي (ولكن إعماري) وعادى الكيانات المعادية للحداثة بشكل متطرف أما هنا فكانت سيطرة الجيش عودة لما قبل دولة الحداثة حيث تأخذ السلطة بالغلبة، الذي هو مبدأ تبادل السلطة في الإمارات الموريتانية ما قبل الاستعمار (كان المبدأ يسمى في حينه بـ"الغدرة"). وترتبط تاريخية الانقلابات الموريتانية وترسخها في الوعي الجمعي لقرون بالدولة نفسها. وفي حقيقة الأمر فإن يوسف بن تاشفين قام بانقلاب على أبو بكر بن عامر (تسميه إحدى الموسوعات الغربية الجنرال أبوبكر). وإن نموذج "الغدرة"، عملية انتقال الإمارة في نظام السلطة عند "حسان" (الأرستقراطية العسكرية التي ورثت الجيش الموريتاني، لدواعي التخصص)، كان نسخة طبق الأصل من انقلابات الجيش الموريتاني "المجيد".
-5-
إن قصة الجيش هنا رهيبة بحق، وهي قصة الوحش الذي أناخ قرب مخيم الأسر البريئة ثم نصب نفسه حاميا للحريم و أصبح لا بد من تقديم قربان له كل يوم. وفي جميع العالم حدث تدخل للجيش في السلطة. بل وإن تاريخ الديمقراطية الحداثية هو تاريخ التحرر التدريجي من تدخل القوة والإكراه في السياسة. ولكن في هذه الأرض يصر الجيش وسياسيون محترمون أنه لا يمكن تداول السياسة دون استدعاء الجيش.
-6-
الأدهى أنه لا يمكن الحديث بغير الإشارات عن الوحش: القانون الموريتاني يحمي الجيش من الكلام و يمنع التعرض له حتى بالتحليل النقدي. و في مطلع التسعينيات استغرق الأمر من السلطة دروسا تكريرية لترسيخ هذه العادة: عشرات الجرائد صودرت بحجة التعرض لحرمة الجيش، وعشرات المواطنين سجنوا وحقق معهم بتهمة إضعاف معنويات الجيش. ولقد حول الرقيب الموريتاني الجيش الجبار إلى طفل هش النفسية يجب تكميم فم كل من يتحدث عنه نقدا حتى لا يموت كمدا. 
ومن ناحية أخرى هب عشرات المثقفين بالماركة العسكرية المسجلة إلى تمجيد حضور الجيش في السياسة بالحجج التقليدية: نظامية الجيش واحترافيته ووطنيته في مقابل فساد وفوضوية وعمالة  السياسة المدنية. آلاف الأيدي المؤيدة صفقت لأعمال غبية لمجرد أن الجيش- الوطني نظريا- قام بها. ولقد سمحت حجج كهذه بتأمر التفاهة بأسوأ مما نعتقد.
-7-
لا يمكن هنا فهم تدخل الجيش في الدولة بأي منظور مقارن. في جميع العالم قفز الجيش للسلطة نتيجة تورط الدولة في صراع وجودي مع دول أخرى، وقفز الجيش لتولي الشأن الخارجي واختطافه من الحكومة. حدثت هذه القصة في جل إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. وسنفترض أن انقلاب 1978 كان في هذا الإطار (حرب الصحراء). وإن جزء من تراجع سيطرة العسكريين على السياسة في بقية دول العالم هو سيادة كيان أممي يضمن حل الأزمات بين الدول في شكل مقررات تفرض نفسها، إضافة إلى نهاية الحرب الباردة التي كانت تحفز الصراع بين الدول وبالتالي قفز العسكر إلى السلطة. مع نهاية ذالك الاحتدام العالمي ألقى كثير من العسكريين سلاحهم وعادوا إلى الثكنات أو تحولوا فجأة إلى مدنيين. هنا يعيش الجيش خارج التاريخ ويمعن قادته النظر في جرائد الصباح بحيث يهندسون انقلابا لدى أبسط خلاف بين الرئيس وأنصاره.
                                                          -8-
تغلغل الجيش في الجسم المدني هو المسئول. تصادفت اللحظة السحرية (لحظة تراجع الجيش عالميا) مع وجود الطايع العسكري على هرم السلطة في البلاد وساعتها ذهب للدولاب وأبدل جلده دون أن يتوقف تغلغل  العسكريين في السلطة لدواعي تسكين العسكريين.
في الوقت الذي كان فيه الجميع يتبجح بأن هذا نظاما مدنيا كانت الوحوش تتسلل ببطء إلى المدينة: تم تحويل الجيش إلى كيان سياسي له حصته في التعيينات المدنية و يتم مراعاة التوازنات فيه وتعاقب المجموعات بالحرمان من التدرج فيه. تحول الجيش إلى مجموعة سياسية موازية للقبيلة والحزب ولم يتم احترام التدرج فيه لهذه الأسباب. ولدواعي أمن النظام تم خلق فئة من أهل الثقة ترتبط مصالحها بالنظام وتكلف بمراقبة تحركات الجيش من خلال عمل المخابرات العسكرية. ولقد أخل عمل المخابرات بالجيش من حيث هو مؤسسة بعيدة عن "محاكم التفتيش" السياسية، وبالتالي التسييس. وفي حقيقة الأمر فإن دخول الجيش في السياسة المدنية وفي متاهة الحركات السياسية كان قد اكتمل قبل اللحظة الطائعية ولأسباب تاريخية؛ كما أن دخول الحركات السياسية في الجيش من السبعينيات وشمولية العمل السري كمحدد أساسي للتواصل السياسي كان قد حول الجيش إلى مجرد جهاز للطموح للسلطة. (جاء في ذكريات الضابط الأسطوري أنه التحق بالجيش من أجل الانقلاب تماما كانخراط جيل القوميين الأول).
كانت التسعينيات "الديمقراطية" مهمة في فتح مجالات للتغيير خارج العمل القسري وانصرف المدنيون إلى العمل التعبوي وسياسة الأحزاب و"المبادرات" والتأييد وتجاهلوا جيش ياجوج وماجوج الذي يحفر في السد الحدودي. رغم ذالك لم يعد الجيش لتخصصه (الحماية والإعمار) بل استمر في التحول الحثيث إلى جسم مدني مواز للكيانات القائمة التي تغزوها السياسة التقليدية ويمكن تسييسها في أي لحظة. وهكذا عندما نضج الجيل الجديد من السياسيين 2008 الذين أدخلهم انقلاب الثالث أغسطس الحياة السياسية وقاموا باستدعاء الجيش في السياسة (لأول مرة بطريقة علنية من خلال تحالفهم مع أطماع العسكر في أزمة حجب الثقة) وجدوا أن شروط الاستدعاء قد تحققت قبلا بفعل "تمدن" الجيش الذي جعله جزءا من الاصطفاف القائم بفعل تغلغل "الشوائب" المدنية فيه: المصالح الإقتصادية، الإصطفاف الفئوي، المحسوبية، النفوذ الغير مؤسساتي. 

                                                          -9-
 لم يسلم الجيش من شوائب السياسة المدنية بأي حال. وهنالك سوسيولوجيون محترمون يرددون بأن اقتحام الجيش للسياسة يعود لإحتقاره الحياة المدنية الفوضوية والفاسدة. ونحن نعرف أن هذا ليس أكثر من حجة،  ونمتلك، بنفس الطريقة التي نعلم فيها بفساد المدنيين، معلومات بتورط المؤسسة العسكرية في الفساد حتى النخاع. ولقد استخدم الضباط الساميون الجنود في الخدمات الخاصة كما استخدمت موارد الجيش في القطاعات الخاصة (التحطيب للحمامات الخاصة، مثلا) وباع الضباط ولاء جنود الثكنات وأصواتهم في مواسم الانتخابات وتورط الضباط في بيع وتهريب الأسلحة إضافة إلى النهب الصريح للميزانية وتعبيد الجنود في الأعمال المنزلية. وإن استثراء الضباط الكبار في الجيش بشكل لا يمكن فهمه من داخل الحساب البسيط لأجورهم لهو مدخل مهم للجزم بفسادهم في غياب حالات فساد عدلية مكشوفة (تماما كالجزم بفساد المدنيين). وفي الحقيقة فإن فساد الجيش من هذه الناحية أضمن لأن القانون يتكتم على الإنفاق العسكري، والتدرجية العسكرية تعيق الإحتجاج. ويمكن اعتبار أن جزءا من أسباب انقلابي 2005 و 2008 هو صراعات المصالح التجارية التي يقف الضباط-التجار في أطرافها.
                                                          -10-
زالت خشونة جلود الضباط الكبار واختفت ألوانهم الداكنة ونعمت أصواتهم فيما تمددت بطونهم للأمام في تحد لبزاتهم الصارمة وأثر الدسم في مشيتهم بالحد الكافي من الانتقام من سنوات المشية العسكرية المنضبطة، وأثر غياب الانضباط في مهمتهم القاضية بالابتعاد من السياسة. وانتهى الجيش.
                                                          -11-
لايمكن فهم سياسية الجيش الموريتاني من تخصصه. في جميع العالم يقوم الجيش بانقلاب عندما تمس القضايا الأمنية وهنا يهب الجيش في عز السكون. وفي الحقيقة فإن كل الملفات الأمنية والعسكرية هي متروكة حصريا للضباط منذ 2005 وبشكل لا علاقة لرئيس الجمهورية به. ولقد باشر الجنرالان الأساسيان في انقلاب السادس أكبر عملية أمنية في البلاد عندما حاصرا خلية سلفية قتالية وهزما كما في حرب الصحراء، (تبين أنهما باتا يحرسان إلى الصباح منزلا خاويا إلا من حصير بال و كتاب جهادي وحبات من الفول). رغم هذا اعتبر الجنرال في أول تبرير علني للانقلاب أنه من فشل السلطة المدنية في الأمن. (بعد أشهر من حكم الجنرال الأمني حدثت أكبر كارثة أمنية في البلاد بعد لمغيطي).
على العكس جاء انقلاب 2008 من سياسية -وليس أمنية- الجيش: قاموا بالانقلاب لأن الرئيس المدني جردهم من قوتهم السياسية بأن أقالهم. ولقد عرض الجنرال -حسب نفس المقابلة- على الرئيس التراجع عن الإقالة مقابل التراجع عن الانقلاب: إعادة المنصب العسكري الذي يضمن نفوذا سياسيا والسماح بالمزاحمة في السياسة.
                                                          -12- 
لايمكن فهم سياسية الجيش من باب غيرته السياسية. كان الجيش يستخدم دوما حججا موجودة في الشارع السياسي من أجل القيام بانقلاب، ولكنه كان دوما أول المنقلبين على هذه الحجج. وتأخذ القصة هنا منحى كاريكاتوريا مكررا: الجيش هو حزب سياسي في صميم النظام القائم، ولكنه يستخدم حجج المعارضة (النظام غير-القائم) من أجل تبديل قيادة النظام دون تغييره وتمكين المعارضة، بل وتقويته. وفي 2005 اعتمدوا على نقد المعارضة لولد الطايع من أجل الإطاحة به مع السعي لتقوية أغلبيته ضد معارضتها، ومع عدم القطيعة مع الفساد السياسي الذي هو أصلا حجة الانقلاب. وفي 2008 استخدموا حجة الفساد وعدم الديمقراطية مع الشروع في إنتاج أكثر الأنظمة بناء على المكافأة والمحسوبية وأكثرها تركيزا للسلطة في يد الأقل وأقلها لامركزية.
                                                          -13-
لا يمكن فهم سياسية الجيش إلا في ارتباطه بالمصالح القائمة. وفي الحقيقة فإن غزو الجيش للمجال المدني يعود لفترة العسكرتاريا الأولي في أواخر السبعينيات، وهو أمر زاد عليه الطايع الوظائف والمكاسب. وفي الفترة الأخيرة تحول الضباط إلى أكبر الشرائح استفادة في البلاد: زادت المنح العسكرية وزاد الإنفاق العسكري (الذي يسير خارج التفتيش المدني) في ما ازداد الدور التسييري للعسكريين. ويمتلك الضباط من خلال تسييرهم وتورطهم في القطاعات المدنية مشاريع استثمارية وطموحات اقتصادية هائلة ذات امتدادات سياسية بفعل هذا الامتلاك. ويتقاضى الضباط الكبار أكبر الأجور في البلاد. كما يكسبون تأييد اللوبيات المالية بفعل تحكمهم؛ ولقد ارتبطت عندهم زيادة الأجور بالانقلابات منذ 2005. كان المدنيون هم بقرة الجيش، وتمرس الجيش على فن الحلب. وأدمن الضباط طعم اللبن.
                                                          -14-
مالذي حدث للجيش الموريتاني بعد انتهاء جمهوريته؟
 جواب: تحول إلى ميليشيا. الميليشيا هي القوة العسكرية المنظمة التي لا تأتمر بأوامر الجمهورية وقانون الجمهورية. الجيش الذي يزج بنفسه في معركة سياسية ويعادى طرفا لأنه مختلف سياسيا وليس وطنيا، والجيش الذي لا تتبع فيه قواعد التدرج، والجيش الغامس في الاصطفاف العصبي والاستفادة المادية، ليس جيشا أبدا. هو فيلق شخصي في أحسن الأحوال.
                                                          -15-
مالعمل؟
لنستأنس أولا بهذه الحكاية.
إن الزوايا هم شعب مسالم، وككل كل الشعوب فإنهم يحبون بناء مجتمع مستقر وسالم. وذات مرة أتيحت الفرصة لفريق (افريق) منهم أن ينيخ بأرض خضراء (تامورت) حيث يمكن للأغنام والإبل أن تسرح ويلعب الأطفال فيما يجتمع الكبار في الساحة الكبيرة يمارسون مكرهم السياسي والسخرية من بعضهم بالطرق المضمرة التي يعتاد عليها الزوايا. ازدهرت الدولة (الفريق) بسرعة وبدأت الأغنام والإبل تكبر وتدر لبنا أكثر، وساهم هذا في تخفيف الدسائس وبدأ الكل يهتم بنفسه ويمارس حريته في التعبير. فترة ديمقراطية وسلام.
بدأت المشاكل عندما بدأ ضبع في غزو مسارح الفريق وقتل المواشي وأكلها. في البداية استقبل الزوايا الأمر بفتور وبدؤوا في السخرية من الضبع وبدأ بعضهم في استخدام اسم الضبع رمزا للآخر والسخرية منه. ازدادت صولة الضبع وتشجع على اصطياد المزيد والمزيد من المواشي. وعندئذ بدأت المشاكل في العودة: أصيب الفريق بأزمة غذائية بسبب شح المواشي وعادت المشاكل والصراعات وساءت أمزجة الجميع. وكان لا بد من حل سريع. واجتمع شيوخ الحي عند البهو الكبير وناقشوا إلى الليل. الزوايا يكثرون من النقاش ويحولون الأمر إلى مشاكل داخلية لذا استغرق الأمر منهم وقتا قبل أن يجمعوا على رأي واحد: قرروا استدعاء حارس مر عليهم ذات يوم عارضا خدماته في الحراسة ومدعيا قدرته على الحل الفوري.
جاء الحارس متثاقل الخطى وأظهر عدم رغبته في العمل إلا حبا منه في الحي ثم اقترح مبلغا باهظا بشكل هائل ومكانة عالية بشكل لا تقبله تسلسلية الزوايا. فغروا أفواههم ولكنهم وافقوا. في الصباح الباكر عندما استلم الحارس عمله بدأ في حرق البخور العفن في عموم الحي وأمر الرجال بتلطيخ أوجههم بالسواد والنساء بالعويل، أما الأطفال فعليهم الجري جيئة وذهابا طوال الليل والنهار. استمر هذا الأمر لأسابيع، والحارس لا يخرج إلا نادرا ليعطي تعليمات اعتباطية لعموم الحي. بعد أشهر لاحظ الزوايا أن لا شيئ تغير: المواشي تنقص والحي في حالة هياج مخيف فيما الحارس في خيمته يأكل من الذبائح الطرية التي تقدم له كل حين كجزء من العقد، وأصبح له هم ثان: أصبحت ضحكته عالية جدا وتحسن شكله وهندامه بشكل ملحوظ وأصبح يشاهد كل الوقت مرتفقا قرب جماعة من بنات الحي يسمعهم قريضه ونكته ويردد ضحكته العالية في المجال فيما الضبع يهاجم المواشي ويقتلها بأشد من الأول.
عندما وصل الأمر إلى هذه الحالة، عندما عرف الزوايا أن المشكلة الحقيقية هي الحارس (المشكلة دائما في الحارس، اسألوا ولد الشيخ عبد الله) اجتمعوا عند الشجرة وباتوا في نقاش إلى الليل. هذه المرة توصلوا لفكرة أجمع عليها الجميع بلا خلاف: أن يذهبوا للضبع ويطلبوا منه تخليصهم من الحارس.

                                                          -16-
والعمل؟
لنعد ونكمل الملحمة الإغريقية بخصوص الوحوش التي تغزو المدينة. جيش الوحوش يقوده: ألكونيوس و بورفيريون: وحشان مريعان. دمار مريع سيهد البلاد تحت قيادتهما: ستموت التنمية وستدك الأرض، وسيسود الخوف. حتى الآلهة على رأسها زيوس وبوسيدون ستخاف. في الصراع ضد الجيش لا يكفي عمل الآلهة وحده، وستقضي العرافة بأنه لا بد من يعمل البشر شيئا بأنفسهم : لا بد من يهب هرقل للقتال ولا بد من فصل الوحوش عن تسيير الأمور وردهم إلى الثغور. تولدت جبهة للدفاع عن المدنيين مكونة من المتدينين يقودهم زيوس والمحاربين يقودهم هرقل والمدنيين الأبرياء. وحدها المواجهة –وليس الحوار- ستنهي الوحوش وستنشر جثثهم في أطراف المدينة. انتصر هرقل وزيوس بالمواجهة والنزول للميدان.
أي حل سياسي لا يضع في الحسبان إعادة هيكلة الجيش بحيث يمكن التحصل على ضمانات عملية ومستديمة–وليس ظرفية فقط- لابتعاد الجيش عن الصراع السياسي القائم لا يسمى حلا. يمكن تسميته توافق ولكنه ليس حلا: لا يمنع من أن يقفز جنرال فجأة إلى المجال السياسي بحجج من نوع: "انقلاب ردا على الإقالة" ثم يقوم بتسيير البلاد ما شاءت له الأقدار المحفوفة بالإستصنام والاسترزاق السياسي.
إلى الأمام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق